والقول الثاني: أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم، قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32] ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم " وقرأ هذه الآية، قال القفال رحمه الله: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، ولم يبعد أيضاً أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران: 110] وهو كقوله{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [السجدة: 18] ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية. الصفة الأولى: أنها قائمة وفيها أقوال الأول: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله{ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً } [الفرقان: 64] وقوله{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ } [المزمل: 20] وقوله{ قُمِ ٱلَّيْلَ } [المزمل: 2] وقوله{ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ } [البقرة: 238] والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة. والقول الثاني: في تفسير كونها قائمة: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله{ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } [آل عمران: 75] أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها، ومنه قوله تعالى:{ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18]. وأقول: إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله { قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ } يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال: