الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } مبدعها. وإنـما هو «مُفْعل» صرّف إلـى «فَعِيـل»، كما صرّف الـمؤلـم إلـى ألـيـم، والـمسمع إلـى سميع. ومعنى الـمبدع: الـمنشىء والـمـحدث ما لـم يسبقه إلـى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي الـمبتدع فـي الدين مبتدعاً، لإحداثه فـيه ما لـم يسبقه إلـيه غيره. وكذلك كل مـحدث فعلاً أو قولاً لـم يتقدّمه فـيه متقدّم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بنـي ثعلبة فـي مدح هوذة بن علـيّ الـحنفـي:
يَرْعَى إلـى قَوْلِ سادَاتِ الرّجالِ إذَا   أبْدَوْا لَهُ الـحَزْمَ أوْ ما شَاءَهُ ابْتَدَعا
أي يحدث ما شاء. ومنه قول رؤبة بن العجّاج:
فأيُّها الغاشِي القِذَافَ الأتْـيَعا   إنْ كُنْتَ لِلَّهِ التّقِـيَّ أَلاطْوَعا
فَلَـيْسَ وَجْهُ الـحَقّ أنْ تَبَدَّعا   
يعنـي: أن تـحدث فـي الدين ما لـم يكن فـيه. فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما فـي السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها علـيه بـالوحدانـية، وتقرّ له بـالطاعة وهو بـارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها علـيه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عبـاده، أن مـما يشهد له بذلك الـمسيح الذي أضافوا إلـى الله جل ثناؤه بنوّته، وإخبـار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلـى غير مثال، هو الذي ابتدع الـمسيح من غير والد بقدرته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول: ابتدع خـلقها، ولـم يشركه فـي خـلقها أحد. حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول: ابتدعها فخـلقها، ولـم يخـلق مثلها شيئا فتتـمثل به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِذَا قَضَى أمْراً فَـانَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ }. يعنـي جل ثناؤه بقوله: { وَإِذَا قَضَى أمْراً } وإذا أحكم أمراً وحَتَـمه. وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكامُ والفراغ منه ومن ذلك قـيـل للـحاكم بـين الناس: القاضي بـينهم، لفصله القضاء بـين الـخصوم، وقَطْعه الـحكم بـينهم وفراغه منه. ومنه قـيـل للـميت: قد قَضَى، يراد به قد فرغ من الدنـيا، وفصل منها. ومنه قـيـل: ما ينقضي عجبـي من فلان، يراد: ما ينقطع. ومنه قـيـل: تَقَضَّى النهارُ: إذا انصرم. ومنه قول الله عز وجل:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23] أي فصل الـحكم فـيه بـين عبـاده بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله:وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } [الإسراء: 4] أي أعلـمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إلـيهم منه. ومنه قول أبـي ذؤيب:
وَعَلَـيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُما   دَاوُدُ أوْ صَنَعَ السّوَابِغِ تُبَّعُ
ويُروى: «وتَعاوَرَا مَسْرُودَتـينِ قَضَاهُما».

السابقالتالي
2 3 4