الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } * { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } * { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } * { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } * { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } * { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } * { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }

وجملة { وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ } معطوفة على { عرضوا } ، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده السعيد في يمينه، والشقيّ في شماله، أو في الميزان. وإما عقلي، أي أظهر عمل كل واحد من خير وشرّ بالحساب الكائن في ذلك اليوم { فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع، والمجازاة بالعذاب الأليم { وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا } يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك، ومعنى هذا النداء قد تقدّم تحقيقه في المائدة { مَّالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } أي أي شيء له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ } في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا { حَاضِرًا } مكتوباً مثبتاً { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه. ثم إنه سبحانه عاد إلى الردّ على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } أي واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم، كما مرّ تحقيقه { فجسدوا } طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود { إِلاَّ إِبْلِيسَ } فإنه أبى واستكبر ولم يسجد، وجملة { كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ } مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجنّ ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى. ومعنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } أنه خرج عن طاعة ربه. قال الفراء العرب تقول فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. قال النحاس اختلف في معنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } على قولين الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب أن المعنى على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره. ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء } كأنه قال أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه وتتخذون ذريته، أي أولاده وقيل أتباعه مجازاً { أولياء مِن دُونِى } فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي، والحال أنهم أي إبليس وذريته { لَكُمْ عَدُوٌّ } أي أعداء. وأفرده لكونه اسم جنس، أو لتشبيهه بالمصادر كما في قولهفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } الشعراء 77. وقولههُمُ ٱلْعَدُوُّ } المنافقون 4 أي كيف تصنعون هذا الصنع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم؟ بمن لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدوّ لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت { بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً } أي الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان، فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه بدلاً عن الله سبحانه.

PreviousNext
1 3 4 5