الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك، وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية، وهو أبو عبيدة، أنه زعم أن { إِذْ } ههنا زائدة، وأن تقدير الكلام وقال ربك، وردّه ابن جرير، قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة { إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل كما قال تعالىوَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلأَرْضِ } الأنعام 165 وقالوَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ } النمل 62 وقالوَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـٰئِكَةً فِى ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } الزخرف 60 وقالفَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الأعراف 169 وقرىء في الشاذ { إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيقةً } حكاها الزمخشري وغيره، ونقله القرطبي عن زيد بن علي. وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل. وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي، أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك، وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، أي نصلي لك، كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعباد والزهاد، والأولياء والأبرار والمقربون، والعلماء والعاملون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، وذلك لأنهم يتعاقبون فينا، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء، ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام

السابقالتالي
2 3 4 5 6