الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } * { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }

والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالىفإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي } النساء 72 في سورة النساء. والتوكيد بإنّ في قولهم { إنا لله } لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه مِلْكاً لله تعالى وعبداً له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هولها بينه وبين رشده، واللام فيه للملك. والإتيان باسم الإشارة في قوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم } للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثلأولئك على هدى من ربهم } البقرة 5 وهذا بيان لجزاء صبرهم. والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالىإن الله وملائكته يصلون على النبي } الأحزاب 56. وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبىء عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالىويقيمون الصلٰوة } البقرة 3 ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية. وقوله { وأولئك هم المهتدون } بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقولهوإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } الأعراف 131 وقال في المنافقينوإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } النساء 78، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.

PreviousNext
1 2