الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلضُّحَىٰ } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } * { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }

قوله تعالى: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } قد تقدّم القول في «الضحى»، والمراد به النهار لقوله { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } فقابله بالليل. وفي سورة الأعرافأَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف: 97 ـ 98] أي نهاراً. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المِعراج. وقيل: هي الساعة التي خرّ فيها السَّحَرة سجداً. بيانه قوله تعالى:وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [طه: 59]. وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فهي إضمار، مجازه ورب الضحى. و { سَجَىٰ } معناه: سكن قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سَجْواً: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم   وبحرك ساجٍ ما يوارِي الدعامِصا
وقال الراجز:
يا حَبَّذَا القَمْراءُ والليلُ الساجْ   وطُرُق مِثلُ مِلاءِ النسّاجْ
وقال جرير:
ولقد رمينَك يوم رُحْن بأعينٍ   ينظرن من خِلَل الستور سواجي
وقال الضحاك: «سجا» غطَّى كل شيء. قال الأصمعيّ: سَجْو الليل: تغطيته النهار مثلما يُسَجَّى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضاً: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل وروي عن قتادة أيضاً. وروى ابن أبي نَجيح عن مجاهد: «سجا» استوى. والقول الأوّل أشهر في اللغة: «سجا» سكن أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: «والضحى. والليلِ إذا سَجَا»: يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليلِ إذا أظلم. ويقال: «الضحى»: يعني نور الجنة إذا تنوّر. «والليل إذا سجا»: يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: «والضحى»: يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. «والليلِ إذا سجا»: يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء. { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }: هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه الله وودّعه فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقيل: خمسة وعشرين يوماً. وقال مقاتل: أربعين يوماً. فقال المشركون: إن محمداً ودّعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاريّ عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقُم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قرِبَك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله عز وجل: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }.

السابقالتالي
2 3