الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه ست مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أي خرج. وسلختُ الشهرَ إذا صرت في أواخر أيامه، تَسْلَخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر:
إذا ما سلختُ الشهرَ أهللتُ قبله   كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي
وٱنسلخ الشهر وٱنسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته. وفي التنزيل:وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [ياسين: 37]. ونخلة مِسلاخ، وهي التي ينتثر بُسْرها أخضر. والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحد فَرْد. قال الأصم: أُريد به من لا عَقد له من المشركين فأوجب أن يمسَك عن قتالهم حتى ينسلخ الحُرُم وهو مدة خمسين يوماً على ما ذكره ٱبن عباس لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حُرُم لأن الله حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير. الثانية ـ قوله تعالى: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } عامٌّ في كل مشرك، لكن السُّنّة خصّت منه ما تقدم بيانه في سورة «البقرة» من ٱمرأة وراهب وصبيّ وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب:حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } [التوبة: 29]. إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. وٱعلم أن مطلق قوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } يقتضي جواز قتلهم بأيّ وجه كان إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصدّيق رضي الله عنه حين قتل أهل الردّة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكِيس في الآبار، تعلّق بعموم الآية. وكذلك إحراق عليّ رضي الله عنه قوماً من أهل الردّة يجوز أن يكون ميلاً إلى هذا المذهب، وٱعتماداً على عموم اللفظ. والله أعلم. الثالثة ـ قوله تعالى: { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } عامٌّ في كل موضع. وخصَّ أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام كما سبق في سورة «البقرة». ثم اختلفوا قال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كلَّ آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدّيّ وعطاء: هي منسوخة بقوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً }. وأنه لا يُقتل أسير صَبْراً، إما أن يمنّ عليه وإما أن يُفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لأن المَنّ والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أوّل حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق.

السابقالتالي
2 3