الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }

فيه خمس عشرة مسألة: الأُولى ـ قوله تعالى: { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لما حَرّم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قُطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها قال الله عز وجل: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } الآية. على ما تقدّم. ثم أحلّ في هذه الآية الجِزْية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك فجعلها عِوضاً مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم. فقال الله عز وجل: { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية. فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصاً ذِكر محمد صلى الله عليه وسلم وملّته وأُمّته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظُمت منهم الجريمة فنبّه على محلهم ثم جعل للقتال غاية، وهي إعطاء الجزية بدلاً عن القتل. وهو الصحيح. قال ابن العربيّ: سمعت أبا الوفاء عليّ بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتجّ بها. فقال: «قَاتِلُوا» وذلك أمر بالعقوبة. ثم قال: «الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة. وقوله: «وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ» تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد. ثم قال: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } زيادة للذنب في مخالفة الأعمال. ثم قال: { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ } إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام. ثم قال: { مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } تأكيد للحجة لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. ثم قال: { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } فبيّن الغاية التي تمتدّ إليها العقوبة، وعيّن البدل الذي ترتفع به. الثانية ـ وقد ٱختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية قال الشافعيّ رحمه الله: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصّةً، عرباً كانوا أو عجماً لهذه الآية فإنهم هم الذين خُصّوا بالذكر فتوجّه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل:فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]. ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب. وقال: وتقبل من المَجُوس بالسُّنّة وبه قال أحمد وأبو ثَوْر. وهو مذهب الثَّوريّ وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الأُوْزاعيّ: تؤخذ الجزية من كل عابد وَثَن أو نار أو جاحدٍ أو مكذّب. وكذلك مذهب مالك فإنه رأى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربياً أو عجمياً، تَغْلَبيّاً أو قرشياً، كائناً من كان إلا المرتدّ. وقال ابن القاسم وأشهب وسُحنون: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأُمم كلها. وأما عَبَدة الأوثان من العرب فلم يستنّ الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام.

السابقالتالي
2 3 4 5