الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }

أكّد أمر الجهاد أي كونوا حوارِيّ نبيِّكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريّ عيسى على من خالفهم. وقرأ ابن كثِير وأبو عمرو ونافع «أنصاراً لله» بالتنوين. قالوا: لأن معناه اثبتوا وكونوا أعواناً لله بالسيف على أعدائه. وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام «أنصار الله» بلا تنوين وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيد لقوله: «نحنُ أَنْصَارُ الله» ولم ينوّن ومعناه كونوا أنصاراً لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله أي كونوا أنصاراً كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصاراً وكانوا حواريّين. والحوَاريُّون خواصّ الرسل. قال مَعْمَر: كان ذلك بحمد الله أي نصروه وهم سبعون رجلاً، وهم الذين بايعوه ليلة العَقَبة. وقيل: هم من قريش. وسمّاهم قتادة: أبا بكر وعمر وعليّ وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة ـ واسمه عامر ـ وعثمان بن مَظْعُون وحمزة بن عبد المطلب ولم يذكر سعيداً فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ } وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلاً، وقد مضت اسماؤهم في «آل عمران»، وهم أوّل من آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القَصَّارون فاسألهم النُّصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدّقوه ونصروه. ومعنى «مَنْ أَنْصَارِي إلىَ الله» أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذَّوْد إلى الذَّوْد إبل، أي مع الذَّوْد. وقيل: أي من أنصاري فيما يقرّب إلى الله. وقد مضى هذا في «آل عمران». { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في «آل عمران» بيانه. { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ } الذين كفروا بعيسى. { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أي غالبين. قال ابن عباس: أيّد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار. وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيّدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحداً ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال. وقال زيد بن عليّ وقتادة: { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } غالبين بالحجة والبرهان لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!. وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحوارِيّين والأتباع فطرس وبولس إلى رُومِيَة، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى ارض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قُرْطَاجَنّة وهي أفريقية. ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس الى أورشليم وهي بيت المقدس. وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسمين إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها. فأيدهم الله بالحجة. { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أي عالين من قولك: ظهرت على الحائط أي عَلَوْت عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.