الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. و «الْكِتَاب» القرآن { بِٱلْحَقِّ } أي هو بالأمر الحق { مُصَدِّقاً } حال { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أي من جنس الكتب. { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي عالياً عليها ومرتفعاً. وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدّمت إليه الإشارة في «الفاتحة» وهو ٱختيار ٱبن الحصّار في كتاب شرح السنة له. وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرح الأسماء الحسنى والحمد لله. وقال قَتَادة: المهيمِن معناه الشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدّق ومنه قول الشاعر:
إن الكتاب مُهيمِن لنبيّنا   والحق يعرفه ذوو الألباب
وقال ابن عباس: «وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» أي مؤتمناً عليه. قال سعيد بن جُبَير: القرآن مؤتمَن على ما قبله من الكتب. وعن ٱبن عباس والحسن أيضاً: المهيمن الأمين. قال المبرّد: أصله مُؤَيْمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرَقْت الماء هَرَقت، وقاله الزجاج أيضاً وأبو عليّ. وقد صرف فقيل: هَيْمَنَ يُهيمِن هَيْمَنةً، وهو مُهَيْمِن بمعنى كان أميناً. الجوهريّ: هو من آمن غيره من الخوف وأصله أأْمَنَ فهو مُؤَأمن بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مُؤَيْمن، ثم صيرت الأُولى هاء كما قالوا: هَرَاق الماء وأرَاقه يقال منه: هَيْمن على الشيء يُهيمِن إذا كان له حافظاً، فهو مُهيمن عن أبي عُبيد. وقرأ مجاهد وابن مُحيصن: «وَمُهَيْمَناً عَلَيْهِ» بفتح الميم. قال مجاهد: أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن. قوله تعالى: { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } يوجِب الحكم فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله:فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [المائدة: 42] وقيل: ليس هذا وجوباً، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت إذ لا يجب علينا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذّمة. وفي أهل الذّمة تردّد وقد مضى الكلام فيه. وقيل: أراد فاحكم بين الخلق فهذا كان واجباً عليه. قوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } فيه مسألتان: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق يعني لا تترك الحكم بما بيّن الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام. والأهواء جمع هوًى ولا يجمع أَهْوِية وقد تقدّم في «البقرة». فنهاه عن أن يتّبعهم فيما يريدونه وهو يدل على بطلان قول من قال: تقوَّم الخمر على من أتلفها عليهم لأنها ليست مالاً لهم فتكون مضمونة على مُتلفها لأن إيجاب ضمانها على مُتلفها حكم بموجب أهواء اليهود وقد أُمرنا بخلاف ذلك. ومعنى { عَمَّا جَآءَكَ } على ما جاءك. { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } يدل على عدم التعلق بشرائع الأوّلين. والشِّرْعة والشَّرِيعة الطَّريقة الظاهرة التي يُتوصل بها إلى النجاة.

السابقالتالي
2