الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }

فأمر الله تعالى نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهنّ، وخاطبهنّ بذلك تشريفاً لهنّ، ونهاهنّ عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }. وقد تقدّم معنى التبرج في «النور». وحقيقته إظهار ما ستره أحسن وهو مأخوذ من السَّعة، يقال: في أسنانه بَرَج إذا كانت متفرّقة قاله المبرد. واختلف الناس في «الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى» فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدّرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال الحكم بن عُيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحُكيت لهم سِير ذميمة. وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبيّ: ما بين نوح وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدّرع من اللؤلؤ غير مَخِيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. أبو العالية: هي زمان داود وسليمان كان فيه للمرأة قميص من الدرّ غير مخيط الجانبين. وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يُظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخِلّها، فينفرد خِلّها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. وقال مجاهد: كان النساء يتمشّين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحِقنها، فأمِرْن بالنّقلة عن سيرتهنّ فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غَيْرة عندهم وكان أمر النساء دون حجاب، وجَعْلُهَا أولى بالنسبة إلى ما كنّ عليه وليس المعنى أن ثَمّ جاهلية أخرى. وقد أوقِع اسم الجاهلية على تلك المدّة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهليّ في الشعراء. وقال ابن عباس في البخاريّ: سمعت أبي في الجاهلية يقول إلى غير هذا. قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قَشَف وضَنْك في الغالب، وأن التنعم وإظهارَ الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهنّ من المِشية على تَغْنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً. وذلك يشمل الأقوال كلّها ويعمّها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكنّ على تبذُّل وتستُّر تام. والله الموفق. الثالثة: ذكر الثعلبيّ وغيره: أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تَبُلّ خمارها. وذكر أن سَوْدة قيل لها: لم لا تحجّين ولا تَعْتَمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقرّ في بيتي.

PreviousNext
1 3