الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إنّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علَقة مثلَ ذلك ثم يكون مُضْغة مثلَ ذلك ثم يُرسَل المَلَك فينفخ فيه الروحَ ويُؤمر بأربع كلمات بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقِيٌّ أو سعيد... " الحديث. فهذا الحديث مفسِّر للأحاديث الأول فإن فيه: «يُجمع خلق أحدِكم في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً علقة ثم أربعين يوماً مضغة ثم يُبعث الملك فينفخ فيه الروح» فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدّة المتوفَّى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: «إن أحدَكم يُجمع خلقه في بطن أمّه» قد فسّره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمّه؟ فقال حدّثنا خَيْثمة قال: قال عبد الله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوماً ثم تصير دماً في الرّحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة. الثالثة: نسبة الخلق والتصوير للمَلَك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلْقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال:وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف: 11]. وقال:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون: 12 ـ 13]. وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ }. وقال تعالى:هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2]. ثم قال:وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } [غافر: 64]. وقال:لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]. وقال:خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلّت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا ربّ العالمين. وهكذا القول في قوله: «ثم يُرسَل الملك فينفخ فيه الروح» أي أنّ النفخ سببُ خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمّل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم. الرابعة: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعوّل فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقّنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عِدّة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرَّحِم ببلوغ هذه المدّة إذا لم يظهر حمل.

PreviousNext
1 3 4 5 6