اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور: أحدها: أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في متعلق قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ } وجوه: الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، والثاني: أن يتعلق بقوله: { نَصِيراً } والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله:{ وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } [الأنبياء: 77] الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و { يُحَرّفُونَ } صفته. تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه. الرابع: أنه تعالى لما قال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } [النساء: 44] بقي ذلك مجملا من وجهين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب وقيل: يحرفون الكلم. المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرفون الكلم عن مواضعها. والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره، ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرىء، يحرفون الكلم. المسألة الثالثة: في كيفية التحريف وجوه: أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم «ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طويل» مكانه، ونحو تحريفهم «الرجم» بوضعهم «الحد» بدله ونظيره قوله تعالى:{ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [البقرة: 79]. فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ قلنا لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، والثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح. الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. المسألة الرابعة: ذكر الله تعالى ههنا: { عَن مَّوٰضِعِهِ } وفي المائدة{ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } [المائدة: 41] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، فههنا قوله: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب.