الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ }

المسألة الثانية: قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى:لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة: 43]. المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه. أما قوله تعالى: { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } ففيه وجوه: أحدها: وهو اختيار المبرد والقفال، ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضاً لازماً، والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وثانيها: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً يا محمد، ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله، عن سعيد بن جبير وثالثها: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله:إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } [الحجرات: 3] عن ابن عباس ورابعها: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية. أما قوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } فالمعنى يتسللون قليلاً قليلاً، ونظير تسلل تدرج وتدخل، واللواذ: الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعني يتسللون عن الجماعة على سبيل الخفية واستتار بعضهم ببعض، و لواذاً حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه، وقرىء { لِوَاذاً } بالفتح ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: قال مقاتل: كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها: قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها: قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها: يتسللون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه وعن ذكره، وقوله: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ } معناه التهديد بالمجازاة. أما قوله: { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال الأخفش عن صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت عن لتضمين المخالفة معنى الإعراض. المسألة الثانية: كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية، وقال أبو بكر الرازي: الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها. المسألة الثالثة: الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب، ووجه الاستدلال به أن نقول: تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك، إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب، والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب، فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب، فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه، قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، فما الدليل عليه؟ ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما: أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني: أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقاً واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقاً واجب القبول، سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر، وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى، وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية، سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }؟ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفاً للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر، فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر؟ فإن قلت لفظة عن صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائداً، سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب، فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب؟ وهذا أول المسألة، فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت: لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية، سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول العقاب، لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله { عَنْ أَمْرِهِ } لا يفيد إلا أمراً واحداً، وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب، فلم قلت إن كل أمر كذلك؟ سلمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله: { عَنْ أَمْرِهِ } يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك؟ الجواب: قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟ قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره، ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر، قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله: افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله: الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقاً واجب القبول، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه.

PreviousNext
1 3 4