الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

والجان خلقناه من قبل من نار السموم } [الحجر: 27] وقال:خلق الإِنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار } [الرحمن: 14، 15] وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور، فلما روي الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، " ولأن من المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، وقيل إنما سموا بذلك، لأنهم خلقوا من الريح أو الروح. وخامسها: أن الملائكة رسل لقوله تعالى:جاعل الملائكة رسلاً } [فاطر: 1] ورسل الله معصومون، لقوله تعالى:الله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام: 124] فلما لم يكن إبليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين: الأول: أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله، وذلك يوجب كونه من الملائكة لا يقال. الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال تعالى:وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } [الزخرف: 26، 27] وقال تعالى:لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيماً إلا قيلا سلاماً سلاماً } [الواقعة: 25، 26] وقال تعالى:لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ } [النساء: 29] وقال تعالى:وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } [النساء: 92] وأيضاً فلأنه كان جنياً واحداً بين الألوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله: { فسجدوا } ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم، لأنا نقول: كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل، فذلك إنما يصار إليه عند الضرورة، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات، ولو قلنا إنه ليس من الملائكة، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى. وأيضاً فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه، وأما قوله: إنه جني واحد بين الملائكة فنقول: إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه الحجة الثانية: قالوا لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } متناولاً له، ولو لم يكن متناولاً له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكباراً ومعصية ولما استحق الذم والعقاب، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة، لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } لأنا نقول: أما الأول فجوابه أن الخطابة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإِناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين، وأيضاً فشدة المخالطة بين الملائكة وبين إبليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على إبليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة، وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور.

PreviousNext
1 2 3 5 6 7 8 9 10  مزيد