الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ }

اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف: إحداها: أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة: أولها: البخل وهو المراد من قوله:يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [الماعون:2،3] الثاني: ترك الصلاة وهو المراد من قوله:ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون:5] والثالث: المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله:ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } [الماعون:6] والرابع: المنع من الزكاة وهو المراد من قوله:وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } [الماعون:7] فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله: { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } قوله: { فَصَلِّ } أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } قوله: { لِرَبّكِ } أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة: { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } قوله: { وَٱنْحَرْ } وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل. والوجه الثاني: في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات: أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها: أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها: أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة، فقوله: { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } إشارة إلى المقام الأول وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف. أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح، وأما قوله: { فَصَلّ لِرَبّكَ } فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله: { وَٱنْحَرْ } إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية. ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى: { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } اعلم أن فيه فوائد: الفائدة الأولى: أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة وَٱلضُّحَىٰ في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها: قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } ، وثانيها: قوله:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد