ولقوله جلّ ثناؤه: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم. فيكون قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } من صلة «الذين». وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ }. والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه. فتكون «من» محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } عليها، وذلك أن «مِن» لو ذكرت في الكلام كانت بعضاً لـ «مَنْ»، فاكتفى بدلالة «مِنْ» عليها، والعرب تقول: منا من يقول ذلك، ومنا لا يقوله، بمعنى: منا من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله، فتحذف «من» اكتفاء بدلالة من عليه، كما قال ذو الرمة:
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ
وآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ
يعني: ومنهم من دمعه. وكما قال الله تبارك وتعالى:{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك «القوم»، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة:
كأنَّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ
يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ
يعني: كأنك جمل من جمال أقيشٍ. فأما نحويو الكوفة، فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن» إلا «مَن«أو ما أشبهها. والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } من صلة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، لأن الخبرين جميعاً والصفتين من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ }. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك. وأما تأويل قوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } فإنه يقول: يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم جماع كلمة. وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم: التوراة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ }: تبديل اليهود التوراة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: { عَن مَّوٰضِعِهِ } فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه. القول في تأويل قوله: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }. يعني بذلك جلّ ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك، وعصينا أمرك.