الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } * { وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }

الذَرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: الذرة: ما يرى شعاع الشمس من الهباء المنثور في الهواء.

أي: كلّ أحد إذا بُعثر ما في القُبور، وحصَّل ما في الصدور، يرى ما عمله في الدنيا من خير أو شرّ مْحضراً، ويصادف دقيق ذلك أو جليله مسطراً في ميزان عمله، وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ووجدوا ما علموا حاضراً، ولا يظلم ربّك أحداً.

وذلك الكتاب، إمّا صحيفة ذاته، أو صحيفة أعلى منها، فكلّ إنسان يكون بعد كشف غطائه ورفع حجابه وحِدّة بصره مبصراً لنتائج أعماله، ومشاهداً لآثار أفعاله، قارياً لصفحة كتابه، مطّلعاً على حساب حسناته وسيّئاته، قال الله سبحانه:وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13 - 14].

فمن جملة أحوال القيامة نشر الصحائف، وتطاير الكتب، لأنّ صحائف الأعمال وكتب القلوب وألواح النفوس وأقلام العقول كلّها مكنونة ها هنا، مطويّة مستورة عن الأبصار في الدنيا، وهي بارزة منشورة يوم القيامة، مكشوفة على الأبصار. كما أنّ منشورات هذا العالم تصير مطويّة في الآخرة، لأنّ الأرواح منغمرة هنا في هذه الأجسام، وفي القيامة على عكس هذه الحال، فكلّما يدركه الإنسان هنا بحواسّه، ويعلمه بجوارحه وآلاته، يرتفع منه أثر إلى الروح، ويجتمع في صحيفة قلبه، ويختزن في خزانة معلوماته. كما قال سبحانه:هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29].

وهو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار والحواسّ، فإذا ارتفع الحجاب، وانكشف الغطاء، وزال غبار الطبيعة عن لوح النفس، وانجلى، يشاهد كلّ أحد في ذاته ما يغيب عن بصره في الحياة الدنيا مسطوراً مكشوفاً، فيطالع صحيفة ذاته، ويقرأ كتاب نفسه، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند فراغه عن أشغال الحياة الدنيا، وما توردها الحواسّ والتفاته إلى صفحة باطنه ووجه قلبه، وهو المعبِّر عنه بقوله:وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير:10].

ومن كان في غفلة عن أحوال نفسه وروحه، يقول عند حضور ذاته لذاته، وكشف غطائه, وحِدّة بصره عند البعث، ومطالعة صفحة كتابه:مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف:49].يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران:30].

وممّا يجب أن يُعلم، أنّ الإنسان إن كان الغالب عليه التصّورات العقليّة والتأمّلات القدسيّة، وفعل الخيرات والطاعات، فيكون كتابه في علّيين، وعلّيّون، هم الملائكة المقرّبون المرتفعون عن حضيض الأجرام:كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18 - 21].

وإن كان الغالب عليه فعل الخيرات والحسنات، وسلامة الصدر عن الأمراض النفسانيّة - مبادي السيّئات - فهو من أصحاب اليمين، ويأتي كتابه من جانب اليمين

السابقالتالي
2 3 4