الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } * { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } * { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ }

الماء المشروب؛ هو الماء العذب الصافي الصالح للشرب. والمُزن: السحاب. واحدهُ مزنَة.

لمّا ذكر في الآية السابقة مادّة المطعوم وصورته، وفاعله الذي هو الخالق الرازق، وغايته التي هي انتفاع الإنسان به وقوام ونشأته الدنيوية مدة عمره منه، ليتهيّأ في تلك المدّة للعود إلى النشأة الآخرة والرجوع إلى غاية الأشياء، وأشير فيها إلى طريق الاستدلال على اثبات البعث، ذكر في هذه الآية مادّة المشروب وصورته، وكيفيّة نزوله، ومبدأ وجوده، وحكمة كونه وغايته.

وطريق الاستدلال به على إثبات فاعل الكلّ وغايته، هو أنّ الماء جسم ثقيل بالطبع تجبره على النزول طبيعته، فإصعاده على خلاف مقتضى الطبع لا بدّ فيه من قوّة قاهرة من عالَم الأمر، هي فوق المادّة والطبيعة، تجبرهما على الصعود كما تجبرها على الاصعاد قوّة العزيز الحميد الذي له المُلك والملكوت، والخلُق والأمر، فإذا اصعدته تلك القوّة التي هي ملك نوراني من ملائكة الله أدّاه إلى يد ملك من ملائكة السحاب وهو خادمه حامل للماء الثقيل وممسك له في جوّ السماء إلى أن يأذن الله له في إرساله وتقطيعه قطرات كلّ قطرة بالقدر الذي قدّره الله على الشكل الذي شاء، وهو أفضل الأشياء وأشرفها، لكونه أبسطها وأوسعها وأدومها وأتمها، وفاعلها ومظهرها ودليلها.

ثمّ ترى ملك السحاب يرشّ الماء بتسيير الرياح وينزل المطر مدراراً في مظان الحاجة إلى الأرض الجُرز، ويرسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرة منها قطرة، ولا تتصّل واحدة بأخرى ولا تزاحمها في الطريق بل تنزل كلّ منها في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه يمنة ويسرة، ولا يتقدّم المتأخّر منها ولا يتأخّر المتقدّم حتّى تصيب الأرض التي عيّنت لها ولكلّ حيوان فيها من طيرٍ ووَحشٍ وبَهيمةٍ ودودٍ مكتوب على تلك القطرة بخطّ إلهيّ لا يدرك بهذه العين الظاهرة: " إنّه رزق الدود الفلاني في الوقت الفلاني يصل إليه وقت حاجته وعطشه ". هذا وغير ذلك من الحِكم التي أنشأها الله تعالى في الماء وانزاله من السحاب في وجوه مختلفة وعلى هيآت متعدّدة، مثل البَرد والثَلج والصقيع وغيرها، مع انعقاد البَرد الصلب من الماء اللطيف، وتناثُر الثلوج كالقُطن المندوف من تأثير محرّك قوي ندّاف مع انّه لا تشاهده العين لغاية لطافته وشفافيته ممّا لا تحصى عجايبه، كلّ ذلك فضل من الجبّار القاهر والخلاّق القادر ما لأحد من الخلايق فيه شرك ومدخل، بل ليس للمؤمنين من خلقه ولا الملائكة المسبّحين إلاّ الاستكانة والخضوع تحت جلاله، ولا للعميان الجاحدين إلاّ الجهل بكفيفيّة خلقه وأمره في شيء، ورجم الظنّ بذكر فاعله وعلّته.

فيقول الجاهل المغرور القاصر النظر: إنّما ينزل الماء من السحاب لأنّه ثقيل بالطبع، وطبيعته سبب نزوله، ويظنّ أنّ هذا معرفة انكشفت له ويفرح به.

السابقالتالي
2 3 4