الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }

روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ... } الآية.

وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن:وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 51] إلى قوله:أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } [الأنعام: 53].

ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضاً قال: مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخبّاب وغيرهم من ضعفاء المسلمين.

وفيه: فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ... } الآية.

ووراء ما ذكرنا، روايات لا تصحّ ولا يوثق بها.

إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما همّ بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهمّ.

فما أورده الرازيّ من كونه صلى الله عليه وسلم، طردهم، ثم أخذ بتكليف في الجواب عنه، لمنافاته العصمة على زعمه، فبناء على واهٍ. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته، وإلا فالباطل يكفي في رده، كونُه باطلاً. وقد أوضحت ذلك في كتابي (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث). والمعنى: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك. كقوله:وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [الكهف: 28].

وقوله تعالى: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي: يعبدونه ويسألونه، { بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } قال سعيد ابن المسيّب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.

وقوله تعالى: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } المراد بالوجه: الذات، كما في قوله:كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] ومعنى إرادة الذات: الإخلاص لها، والجملة حال من: (يَدْعُونَ) أي: يدعون ربهم مخلصين له فيه، وتقييده به لتأكيد علّيته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام، المضاد للطرد.

وقوله تعالى: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ، كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا:

السابقالتالي
2