قَوْلُهُ تَعَالَى: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }؛ إن شِئْتَ جعلتَهُ متَّصلاً بقولهِ{ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } [آل عمران: 23] { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } ، وإن شئتَ جعلتَها منقطعةً مستأنفة. قال ابنُ عبَّاس: (كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الأَمْرِ فَيُخْبرُهُمْ، وَيُرَى أنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بهِ فَإذا انْصَرَفُوا حَرَّفُواْ كَلاَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ لَهُ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ: وَعَصَيْنَا أمْرَكَ). وقال بعضُهم { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } راجعٌ إلى قولِهِ{ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } [النساء: 45] على جهةِ التبيين للأعداءِ كما يقالُ: هذا الثوبُ من القُطْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا }؛ معناهُ: أنَّهم كانوا إذا كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ قالوا: اسْمَعْ؛ وقالوا في أنفُسِهم: لا أسْمعْتَ ولا سَمعتَ. وقيل: معناهُ: غَيْرُ مُجَابٍ لَهُ بشيءٍ مما يدعُو إليهِ، وكانوا يقولون: رَاعِنَا؛ يوهِمُونَ أنَّهم يريدون بهذا القولِ: انْظُرْنَا حتَّى نُكَلِّمْكَ بما نريدُ، وكانوا يريدونَ بذلك السَّبَّ بالرُّعُونَةِ بلُغَتِهم. ويقالُ: كانوا يقولونَ هذه الكلمةَ على وجهِ التَّجَبُّرِ والتَّكَبُّرِ، كما يقولُ المتكبرُ لغيرهِ: افْهَمْ كَلاَمِي وَاسْمَعْ قَوْلِي، وكانوا يقولونَ: أرْعِنَا سَمْعَكَ وَتَأَمَّلْ كلامَنا ومثل هذا مِمَّا لا يخاطَبُ به الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، إنَّما يخاطبون بالإجْلاَلِ والإعْظَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ }؛ أي كانوا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بالسَّب والتَّعييرِ والطَّعْنِ في الدِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا }؛ معناهُ: لو قالوا سَمِعْنَا قولَكَ وأطَعْنَا أمرَكَ مكان قولِهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وقالُوا: وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا نَسْمَعْ قَوْلَكَ وَنَفْهَمْ كلامَك مكان قولِهم: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ }؛ وأصوبُ، { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ }؛ أي خذلَهم وأبعدَهم من رحمتهِ مجازاةً بكفرِهم. { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }؛ فلا يؤمنون إيْماناً إلاَّ قليلاً، وقِيْلَ: معناهُ: لا يؤمنونَ إلاَّ قليلاً منهُم وهم: عبدُالله بْنُ سلاَمٍ ومن تابَعَهُ.