فإن قيل: ما الحكمة في نسبته إليها حين واجهها الملك بالبشارة، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ }. قلت: تنبيهاً على أنه آيةٌ لله، مُصوَّرٌ بكلمته، وليس له أب يُنسب إليه، إنما ينسب إليها. قوله: { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } قال الزّجّاج: الوجيه: ذو المنزلة الرفيعة عند ذي القدر والمعرفة. والمعنى: وجيهاً في الدنيا بالنبوّة، والآيات التي خُصَّ بها، وفي الآخرة بالشفاعة، وارتفاع المنزلة عند الله. " وجيهاً " حال من " كلمة ". فإن قيل: " كلمة " نكرة، فكيف يصحّ الحال منها؟ قلت: تَخَصَّصَتْ بالوصف، فقربت من التعريف، ومثل ذلك: { وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }. { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: يبشركِ به موصوفاً بهذه الأوصاف. قوله: { فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } حالان من الضمير في " يُكَلِّمُ ". قال ابن عباس: تَكَلَّمَ ساعة في مهده، ثم لم يتكلّم حتى بلغ مبلغ النطق. أخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: " لم يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ... ثم ساق الحديث إلى آخره ". وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله: " لما كَانَتْ اللَّيْلَةُ التي أُسْرِيَ بي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَة؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَولادِها، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذاتَ يَوْمٍ إِذ سَقَطَ المُدَرِيُّ مِنْ يدها فَقَالَتْ: بسم الله، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْن: أَبي؟ قَالَت: لا، وَلَكِن رَبي وَرَبُّ أَبيكِ الله، قَالَت: أُخْبره بذا؟ فقَالَت: نَعَم، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانة، وَإِنَّ لَكِ رَبّاً غَيْرِي؟ قَالَت: نَعَم، رَبي وَرَبُّك الله، فَأَمَرَ ببَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادهَا فِيهَا، قَالَت: إِنَّ لي إِلَيْكَ حَاجَة، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَت: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي في ثوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذاك لَكِ عَلَيْنَا [من الحق]، قَالَ: فَأَمَرَ بأَوْلادِهَا، فَأُلقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِداً وَاحِداً، إِلى أَن انْتَهَى ذلِكَ إِلَى صَبيٍّ لَهَا يرْضع، فكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَال: يَا أُمَّاه، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَاب الآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ ". قال ابن عباس: تَكَلَّمَ أَرْبَعَة صغار: عِيسى ابن مَرْيَم، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُف، وَابْنُ مَاشِطَةِ [ابْنَةِ] فِرْعَوْنَ ". فإن قيل: ما الحكمة في تكليمه الناس في المهد؟ قلت: الحكمة في ذلك تنزيه أمه، وتحقيق معجزته. قال ابن الأنباري: من أربى على الثلاثين فقد دخل في الكهولة. سمّي بذلك؛ لاجتماع قوَّته، وكمال شبابه، من قولهم: اكْتَهَلَ النَّبات. وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وَخَطَهُ الشّيب. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله: " وَكَهْلاً " قال: ذلك بعد نزوله من السماء. وفي الإخبار لها بأنه يتكلم كهلاً بشارة عظيمة بحياته، وأنه يبلغ سن الكهولة. { قَالَتْ } على وجه التعجّب والاستعلام، مخاطبة لله عز وجل. وقيل: لجبريل، بمعنى: يا سيّدي، فإنّ الرب يطلق بمعنى: السيّد، { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } أي: لم يجامعني رجل، { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } بسبب، وغير سبب. وما بعده إلى آخر الآية مفسّر في البقرة.