الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }

{ يوم } متعلق بقولهلا يملكون منه خطاباً } النبأ 37، أي لا يتكلم أحد يومئذ إلاّ من أذن له الله. وجملة { لا يتكلمون } مؤكدة لجملة { لا يملكون منه خطاباً } أعيدت بمعناها لتقرير المعنى إذ كان المقام حقيقاً، فالتقرير لقصد التوصل به إلى الدلالة على إبطال زعم المشركين شفاعة أصنامهم لهم عند الله، وهي دلالة بطريق الفحوى فإنه إذا نُفي تكلمهم بدون إذن نفيت شفاعتهم إذ الشفاعة كلام مَن له وجاهة وقبول عند سامعه. وليبنى عليها الاستثناء لبُعد ما بين المستثنَى والمستثنى منه بمتعلقاتيملكون } النبأ 37 من مجرور ومفعول به، وظرفٍ، وجملةٍ أضيف لها. وضمير { يتكلمون } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { يملكون }. والقول في تخصيص { لا يتكلمون } مثل القول في تخصيصلا يملكون منه خطاباً } النبأ 37 وقولهإلا من أذن له الرحمٰن } طه 109 استثناء من ضمير { لا يتكلمون } وإذ قد كان مؤكداً لضمير { لا يملكون } فالاستثناء منه يفهم الاستثناء من المؤكَّد به. والقيام الوقوف وهو حالة الاستعداد للعمل الجِد وهو من أحوال العبودية الحق التي لا تُستحق إلا لله تعالى. وفي الحديث " من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " ، أي لأن ذلك من الكبرياء المختصة بالله تعالى. والرُّوح اختلف في المراد منه اختلافاً أثاره عطف الملائكة عليه فقيل هو جبريل. وتخصيصه بالذكر قبل ذكر الملائكة المعطوف عليه لتشريف قدره بإبلاغ الشريعة، وقيل المراد أرواح بني آدم. واللام لتعريف الجنس فالمفرد معها والجمع سواء. والمعنى يومَ تُحْضَر الأرواح لتودع في أجسادها، وعليه يكون فعل { يقوم } مستعملاً في حقيقته ومجازه. و { الملائكة } عطف على { الروح } ، أي ويَقوم الملائكة صفّاً. والصف اسم للأشياء الكائنة في مكان يجانبُ بعضُها بعضاً كالخط. وقد تقدم في قوله تعالى { ثم ائتُوا صفاً } في سورة طه 64، وفي قولهفاذكروا اسم اللَّه عليها صوافّ } في سورة الحج 36، وهو تسمية بالمصدر من إطلاق المصدر على اسم الفاعل، وأصله للمبالغة ثم صار اسماً، وإنما يصطف الناس في المقامات التي يكون فيها أمر عظيم فصفّ الملائكة تعظيم لله وخضوع له. والإذن اسم للكلام الذي يفيد إباحةَ فعل للمأذون، وهو مشتق من أَذِن له، إذا استمع إليه قال تعالىوأذنت لربها وحُقَّت } الإنشقاق 2، أي استمعت وأطاعت لإِرادة الله. وأذِن فعل مشتق من اسم الأذْن وهي جارحة السمع، فأصل معنى أذِنَ له أمال أذنَه، أي سَمْعَه إليه يقال أذن يأذَن أذناً كفَرح، ثم استعمل في لازم السمع وهو الرضى بالمسموع فصار أذِنَ بمعنى رضي بما يطلب منه أو ما شأنه أن يطلب منه، وأباحَ فعله، ومصدره إذن بكسر الهمزة وسكون الذال فكأنّ اختلاف صيغة المصدرين لقصد التفرقة بين المعنيين.

السابقالتالي
2