الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه، كان كأنه قيل: أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فجعلوا النسيء لذلك، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى: ليس فيه شيء من ذلك: { إنما النسيء } أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً - إذا أخره، أو هو اسم مفعول، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها { زيادة في الكفر } أي لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.

ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول: إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله: { يضل به } أي بهذا التأخير الذي هو النسيء { الذين كفروا } أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله - هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول: يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب - بالضم: يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله: { يحلونه } أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال: { عاماً ويحرمونه عاماً } هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين { ليواطئوا } أي يوافقوا { عدة ما حرم الله } أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة { فيحلوا } أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا { ما حرم الله } أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال!

ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم، كان كأنه قيل: إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل: { زين } أي زين مزين، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله { لهم سوء أعمالهم } أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم { والله } أي الذي له صفات الكمال { لا يهدي } أي يخلق الهداية في القلوب { القوم الكافرين* } أي الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء - قال في القاموس -: الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره، قال: وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول، وقال ابن فارس في المجمل: والنسيء في كتاب الله التأخير، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون: أنسئنا شهراً، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9