الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

{ أَوْرَثْنَا }: أي أعطينا الكتابَ - أي القرآن - الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعاً.

{ ٱصْطَفَيْنَا }: أي اخترنا. ثم ذكر أقسامَهم، وفي الخبر أنه لمَّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام: " أمتي وربِّ الكعبة " ثلاث مرات.

وفي الآية وجوهٌ من الإشارة: فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له، ولا ميراثَ له.

ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة، ومحلُّ السبب الطاعة. وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه، ومحل السبب فِعْلُك؛ فهو وَجْهٌ. ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءاً ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تالياً.

ويقال أهلُ النسب على أقسام: - الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق.

ويقال جميع وجوه التملُّك لا بُدَّ فيها من فِعْل للعبد كالبيع، أَمَّا ما يُمْلَكُ بالهِبَةَ فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك. والوصية لا تُسْتَحقُّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بُدَّ من قبول أهل السُّهْمَانِ، والميراث لا يكون فيه شيء من جهة الوارث وفعله، والنَّسبُ ليس من جملة أفعاله.

ويقال الميراث يُسْتَحقُّ بوجهين: بالفرض والتعصيب، والتعصيبُ أقوى من الفرض؛ لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعَصَبَةِ.

{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ }: تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأَفضل، وأرادوا به من ظَلَمَ نَفْسَه لكثرة ما حَمَّلَها من الطاعة.

والأَكثرون: إنَّ السابقَ هو الأفضل، وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة.

ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله: " لنفس " ، وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله: { بِإِذُنِ ٱللَّهِ }؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله: لنفسه، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله: بإذن الله.

كأنه قال: يا ظالمُ ارفعْ رأسَك، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك، ويا سابقُ اخفض رأسَك؛ سَبَقْتَ - ولكن بإذن الله.

ويقال إنَّ العزيزَ إذا رأى ظالماً قَصَمَه، والكريمَ إذا رأى مظلوماً أَخَذَ بيده، كأنه قال: يا ظالم، إِنْ كان كونُكَ ظالماً يوجِبُ قَهْرَك، فكوْنُكَ مظلوماً يوجِبُ الأخذَ بيدك.

ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته، والسابقُ مَنْ زادت حسناته.

ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه.

ويقال الظالمُ مَنْ نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصدُ مَنْ طَلَعَ بَدْرُ عِلْمه، والسابقُ من ذَرَّتَ شمسُ معرفته.

ويقال الظالمُ مَنْ طَلَبَه، والمقتصدُ مَنْ وَجَدَه، والسابق مَنْ بقي معه.

ويقال الظالِمُ مَنْ تَرَكَ المعصية، والمقتصد مَنْ تَرَكَ الغفلة، والسابق مَنْ تَرَك العلاقة.

السابقالتالي
2