الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } * { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } «عَالِمُ» رفعا نعتاً لقوله «رَبِّي». وقيل: أي هو { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدّم بيانه في أوّل سورة «البقرة» { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات وفي التنزيل:وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران: 49]. وقال ٱبن جُبيرُ: «إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَى مِنْ رَسُولٍ» هو جبريل عليه السلام. وفيه بعدٌ، والأوْلى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ٱرتضى أي ٱصطفى للنبّوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوّته. الثانية: قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب وٱستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحدٌ سواه، ثم ٱستثنى مَن ٱرتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوّتهم. وليس المنجّم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ٱرتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفترٍ عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على ٱختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسُّوقة، والعالم والجاهل، والغنيّ والفقير، والكبير والصغير، مع ٱختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على ٱختلافها عند ولادة كل واحد منهم، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه ٱستحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
حَكم المنجِّمُ أن طالعَ مولِدِي   يقضِي عليّ بِميتةِ الغَرِقِ
قُلْ لِلْمُنَجِّمِ صَبْحَةَ الطُّوفَانِ هَلْ   وُلِد الْجَمِيعُ بكَوْكَبِ الْغَرَقَ
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فٱنظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت.

السابقالتالي
2