الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ }

لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإِنسان ما تمنّى، ضَرب لذلك مِثالاً من الأماني التي هي أعظم أمانيّ المشركين وهي قولهم في الأصنامما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى } الزمر 3، وقولهمهؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه } يونس 18، فبينّ إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع إذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين الذين يقولون { هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه } وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله، وقد نفى الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملةأم للإنسان ما تمنى } النجم 24. وليس هذا الانتقال اقتضاباً لبيان عظم أمر الشفاعة. و { كم } اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر { لا تغني شفاعتهم }. وقد تقدم الكلام على { كم } في قوله تعالىسل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } في سورة البقرة 211، وقولهوكم من قرية أهلكناها } في الأعراف 4. و { في السموات } صفة لـــ { ملك }. والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار. وجملة { لا تغني شفاعتهم } الخ، خبر عن { كم } ، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام لوقوع الفعل في سياق النفي، ولإِضافة شفاعة إلى ضميرهم، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلوّ مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم. و { شيئاً } مفعول مطلق للتعميم، أي شيئاً من الإِغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم. ولما كان ظاهر قوله { لا تغني شفاعتهم } يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم، وليس ذلك مراداً لأن المراد أنهم لا يجْرَأون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله { إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } ، وذلك ما اقتضاه قولهولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الأنبياء 28 وقولهمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } البقرة 225 أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له. فالمراد بــــ { لمن يشاء } من يشاؤه الله منهم، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته. واللام في قوله { لمن يشاء } هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم على حد قوله تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وليست اللامُ متعلقة بــــ { يأذن الله }. ومفعول { يأذن } محذوف دل عليه قوله { لا تغني شفاعتهم } ، وتقديره أن يأذنهم الله. ويجوز أن تكون اللام لتعدية { يأذن } إذا أريد به معنى يستمع، أي أن يُظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه.

السابقالتالي
2