قوله تعالى: { كَلاَّ } ردعٌ لهم عن ذلك. ثم توعدهم وأخبرهم بما تؤول إليه حالهم من الحسرة، وتمني ما لا سبيل لهم إلى تداركه، من تقديم الإنفاق في سُبُل الخير والعمل الصالح فقال: { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } أي: مرّة بعد أخرى بالزلازل، حتى يتحطَّم ما عليها من شيء. وقال ابن قتيبة: دُقَّت جبالها وأنشازُها حتى استوَت. { وَجَآءَ رَبُّكَ } مذكور في البقرة عند قوله:{ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210]. { وَٱلْمَلَكُ } يريد: الملائكة { صَفّاً صَفّاً } أي: يأتي [أهل كل] سماء صَفّاً على حِدَة. [قال] الضحاك: [يكونون] سبعة صفوف. { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ } قال مقاتل: يُجاء بها فتُقام عن يسار العرش. [وأخرج] مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [يجرّونها] ". { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } أي: يتّعظ. وقيل: يتذكّر ما فرّط فيه. { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } لا بد فيه من إضمار، تقديره: وأنّى له منفعة الذكرى. ولولا هذا الإضمار لتنافى صدر الآية وعجزها. { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [أي: قدمت لحياتي] هذه، وهي حياة الآخرة. { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي: لا يُعذّب مثل عذاب الله أحد من الخلق ولا يستطيع ذلك. { وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري للكسائي من جميع طرقه، ولعاصم من رواية المفضل عنه، وليعقوب الحضرمي: " يُعذَّبُ " و " يُوثَق " بفتح الذال [والثاء]، والضمير للإنسان، على معنى: لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه. ويجوز أن يكون المعنى: لا يحمل عذاب الإنسان أحدٌ سواه، كما قال:{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]. قوله تعالى: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } قال ابن عباس: المطمئنة بالإيمان. وقال مجاهد: الراضيةُ بقضاء الله، التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها. قال قتادة: الموقنة بما وعد الله. فإن قيل: متى يقال لها ذلك؟ قلتُ: عند خروجها من الدنيا. وفي الحديث: " أن هذه الآية قرئت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر الصديق: إن هذا لحَسَنٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أما إن المَلَك سيقولها لك عند الموت ". وقال عبدالله بن عمر: إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عز وجل ملكين وأرسل إليه بتُحفة من الجنة فيقال: أُخرجي أيتها النفس المطمئنة، أُخرجي إلى روحٍ وريحانٍ، وربٍ عنك راضٍ، فتخرجُ كأطيب ريح مسك وَجَدَه في أنفه. وهذا قول جمهور المفسرين. وقال عطاء وعكرمة والضحاك: يقال لها ذلك عند البعث، حين يأمر اللهُ الأرواحَ أن تعود إلى الأجساد. ويؤيده قراءة ابن مسعود: " في جسد عَبْدِي " ، وقراءة ابن عباس: " فادخلي في عَبِيدِي ". وقيل: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. وقال الحسن: المعنى: ارجعي إلى ثواب ربك راضية بما أوتيت، مرضية عند ربك. { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } أي: في جملة عبادي الصالحين، منتظمة في سلكهم، { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } معهم. والله تعالى أعلم.