الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }

وقرىء: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ }: ببناءِ " كَتَب " للفاعل وهو ضميرُ اللهِ تعالى ونَصْبِ " القتال ".

قوله: { وَهُوَ كُرْهٌ } هذه واوُ الحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ " هو " عائدٌ على القتالِ. وقيل: يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب، أي: وكَتْبُه وفَرْضُه. وقرأ الجمهورُ " كُرْهٌ " بضمِّ الكافِ، وقرأ السلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعْف والضُّعْف، قاله الزجاج وتبعه الزمشخري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ. وقيل: المفتوحُ بمعنى الإِكراه، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ. وقيل: المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو.

فإن كان " الكَرْهُ " و " الكُرْه " مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن " هو " ، وذلك التأويلُ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، أي: والقتالُ ذو كُرْهٍ، أو على المبالَغَةِ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول. وإنْ قُلْنا: إنَّ " كُرْهاً " بالضمِّ اسمُ مفعولٍ فلا يُحْتاجُ إلى شيءٍ من ذلك. و " لكم " في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لكُره، فيتعلَّقُ بمحذوفِ أي: كرهٌ كائِنٌ.

قوله: { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ } " عسى " فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق. وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً بـ " أَنْ ". وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله:
926 ـ أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً   لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً
وقالَتِ الزبَّاء: " عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسا " وقد يَتَجَرَّدُ خبرُها من " أَنْ " كقوله:
927 ـ عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه   له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر:
928 ـ عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه   يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ
وقال آخر:
929 - فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ   عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ
وتكونُ تامة إذا أُسْنِدَتْ إلى " أَنْ " أو " أنَّ " ، لأنهما يَسُدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فعلٌ لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائرِ البارزةِ المرفوعةِ بها، ووزنُها " فَعَل " بفتح العين، ويجوزُ كَسْرُ عينِها إذا أُسْنِدَتْ لضمير متكلمٍ أو مخاطبٍ أو نونِ إناثٍ، وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي: ولا تتصرَّفُ بل تلزم المضيَّ. والفرقُ بين الإِشفاقِ والترجِّي بها في المعنى: أنَّ الترجِّي في المحبوباتِ والإِشفاقَ في المكروهاتِ. و " عسى " من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإِشفاق مُحالان في حقَّه. وقيل: كلُّ " عسى " في القرآن للتحقيقِ، يَعْنُون الوقوعَ، إلا قولَه تعالى:عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [التحريم: 5] الآية ، وهي في هذه الآيةِ ليسَتْ ناقصةً فتحتاجُ إلى خبرٍ بل تامةٌ، لأنها أُسْنِدَتْ إلى " أَنْ " ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مسدَّ الخبرين بعدها.

السابقالتالي
2