الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

بيان قوله تعالى { أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ، الإحلال بمعنى الإجازة، وأصله من الحل مقابل العقد، والرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كني به ها هُنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والإتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ الوطء والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، وتعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل. قوله تعالى { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } ، الظاهر من اللباس معناه المعروف وهو ما يستر به الإِنسان بدنه، والجملتان من قبيل الاستعارة، فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكأن كل منهما لصاحبه لباساً يواري به سوأته ويستر به عورته. وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفاً بانضمامها إلى قوله { أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ، فإن الإنسان يستر عورته عن غيره باللباس، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره، وأما الرفث إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له. قوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } ، الاختيان والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل، وفي قوله إنكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سراً بالخيانة لأنفسهم، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وإن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما وخاصة إذا اجتمعا ظاهران في ذلك. وعلى هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، ويشعر به أو يدل عليه قوله { أُحل لكم } ، وقوله { كنتم تختانون } ، وقوله { فتاب عليكم وعفا عنكم } ، وقوله { فالآن باشروهن } ، إذ لولا حرمة سابقة كان حق الكلام أن يقال فلا جناح عليكم أن تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، وهو ظاهر. وربما يقال إن الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق أهل السنة والجماعة، أن المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } الآية، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سراً مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لأنفسهم، والشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل والشرب بعد النوم، وربما أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت أن النكاح والأكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى { كما كتب على الذين من قبلكم } ، التشبيه في أصل فرض الصوم لا في خصوصياته، وأما قوله تعالى { أُحل لكم } ، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5 6