الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } إرشاد إلى ما شرعه في الصوم - بعد بيان إيجابه على من وجب عليه، وحاله معه حضراً أو سفراً، وعدّته - من إحلال غشيان الزوج ليلاً. وكأنّ الصحابة تحرّجوا عن ذلك ظناً أنّه من تتمة الصوم، ورأوا أن لا صَبْرَ لأنفسهم عنه، فبيّن هم أن ذلك حلال لا حرج فيه.

وقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ }.

إيذاناً بأنه أحلّه ولم يحرّمه؛ إذْ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج.

والرفث: أصله قول الفحش. وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه. كما كنى عنه في قوله:فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [الأعراف: 189]، وقوله:فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [البقرة: 223]، فالله تعالى كريم يكنى، وإيثار الكناية عنه - هنا - بلفظ الرفث الدال على معنى القبح - عدا بقية الآيات - استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب. وللثعالبيّ في آخر كتابه فقه اللغة فصل في ذلك بديع.

ثم إنّ المستعمل الشائع: رفث بالمرأة - بالباء - وإنما عدى هنا بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، كما في قوله:وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [النساء: 21].

{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السَّوْأة. وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار، وسمّي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه عن تعاطي القبيح.

وهذا ألطف من قول بعضهم: شبّه كل واحد من الزوجين - لاشتماله على صاحبه في العناق والضمّ - باللباس المشتمل على لابسه، وفيه قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها   تثنّت فكانت عليه لباسا
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما موقع قوله: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ }؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلّ صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهنّ؛ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ.

{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب وهو اختيان النفس، أي: قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها. ومنه: خانَتْهُ رِجلاه إذا لم يقدر على المشي. أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحلّ لكم ذلك فأحله رحمة بكم ولطفاً، وفي الاختيان وجه آخر وهو: أنّه عنى به مخالفة الحقّ بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بذلك - بتعريضها للعقاب - لو لم يحلّ ذلك لكم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8