الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلّمونا دينكم، وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض.

تنبيهات

الأول: روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: " جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم " " - ونزلت هذه الآية.

وقال ابن زيد: هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيّين أولَها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة - والله أعلم.

الثاني: في قوله تعالى: { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ... } الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: " يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ " - كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمَنّ.

وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى:

وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصراً، أولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً، وأوضحهم حجة وبرهاناً، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية، محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي اتخذه صفيّاً وحبيباً، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم. أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذلك ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً، وبالعنف لّما وجد أنصاراً وجنوداً. لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفّاه، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببنيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتواعدت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.

السابقالتالي
2