الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ }

رجوع إلى تسلية المؤمنين، وتطْمينهم، ووعدهم بالنَّصر على العدوّ. والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرضفألقوا حبالهم وعصيّهم } الشعراء 44، أو في الماءفألقِيه في اليمّ } القصص 7 ويطلق على الإفضاء بالكلاميُلقُون السمع } الشعراء 223 وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤوألقينا بينهم العداوة والبغضاء } المائدة 64 وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقولهوقذف في قلوبهم الرعب } الأحزاب 26. والرعب الفزع من شدّة خوف، وفيه لغتان الرعْب ـــ بسكون العين ـــ والرعُب ـــ بضم العين ـــ وقرأه الجمهور ـــ بسكون العين ـــ وقرأه ابن عامر، والكسائي ـــ بضم العين ـــ. والبَاء في قوله { بما أشركوا بالله } للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم هذه بتلك، وقوله تعالىجزاء بما كسبا } المائدة 38، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة. كمَا لا يزال أتباعهم كذلك، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها، وعليه فقوله { ما لم ينزل به سلطاناً } صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسبابِ إلقاء الرعب في قلوبهم، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان. فإن قلتَ ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة، والله يقول { سنلقي } أي في المستقبل، قلت هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال، وتقويان وتضعفان، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى. كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله
وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي   
وقول الحُصَيْنِ بن الحُمَام
تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا   
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار، فالمشركون لما انهزموا بادِىء الأمر يومَ أُحُد، فُلَّت عزيمتهم، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم، وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل.

السابقالتالي
2