الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ }

أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مستندٌ إلى رصيد قويّ من الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم فهو صلى الله عليه وسلم والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم ولا بعدَدهم وعُددهم وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى. ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مدداً سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده وممن لا يُجير عليه أحدٌ فهو يُجير ولا يُجَار عليه. ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى - عليه السلام - حين كاد الفرعون أن يلحق به ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم فالبحر أمامهم والعدو وراءهم صرخوا:إِنَّا لَمُدْرَكُونَ.. } [الشعراء: 61]. لكن موسى - عليه السلام - يطمئنهم:كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62]. فموسى - عليه السلام - يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله - سبحانه - بمعجزة جديدة:ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ.. } [الشعراء: 63]. فينفلق البحر ليفسح بين مياهه طريقاً يابسة وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى - عليه السلام - أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله - سبحانه:وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [الدخان: 24]. أي: اتركه على ما هو عليه لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق - سبحانه - البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق - سبحانه - وأهْلَكَ بالشيء الواحد وهذه لا يقدر عليها غير الله - سبحانه وتعالى وحده. وهكذا يَهَبُ الحق - سبحانه - المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله معركة من التحدي تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة فيغلبون الكثرة الكافرة. والحق - سبحانه يقول:كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [البقرة: 249]. وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان. وقد تميَّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولاً ثم ينتهي دورها لينزل له بعدها منهج من السماء ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميَّز بمعجزة لا تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة فكان لا بد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.

السابقالتالي
2