الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

والاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف - ولو قيد شعرةٍ - وهذا أمر يصعب تحقيقه لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان. ومثال ذلك: حين ترى الظل والضوء، فأحياناً يصعد الظل على الضوء، وأحياناً يصعد الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس. وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعباً، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية. وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شيبتني هود وأخواتها ". ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ.. } [التغابن: 16]. فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماماً، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال:ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.. } [آل عمران: 102]. وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن قال سبحانه:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ.. } [التغابن: 16]. إذن: فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمراً ونهياً، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة. وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة. ويقول الحق سبحانه: { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ.. } [هود: 112]. وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صلى الله عليه وسلم لأنهم سيتساقطون يوماً بعد يوم. وقول الحق سبحانه: {.. وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود: 112]. يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد. وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدّاً، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده. وقال الحق سبحانه:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا.. } [البقرة: 229]. وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا.. } [البقرة: 187]. أي: أن تبتعد عنها تماماً. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ". وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه، فمثلاً عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان. وجعل الحق سبحانه أيضاً الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول:

السابقالتالي
2