الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق


{ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } * { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }

{ اعد الله لهم } مع ذلك فى الآخرة ولام لهم لام التخصيص لا لام النفع كما فى قولهم دعا له فى مقابلة دعا عليه { عذابا شديدا } اى قدره فى علمه على حسب حكمته او هيأ اسبابه فى جهنم بحيث لا يوصف كنهه فهم اهل الحساب والعذاب فى الدنيا والآخرة لا فى الدنيا فقط فان ما اصابهم فى الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم لعدم رجوعهم عن الكفر فعذبوا بعذاب الآخرة ايضا وهذا المعنى من قوله فحاسبناها الى هنا هو اللائق بالنظم الكريم هكذا ألهمت به حين المطالعة ثم وجدت فى تفسير الكواشى وكشف الاسرار وأبى الليث والاسئلة المقحمة ما يدل على ذلك والحمد لله تعالى فلا حاجة الى ان يقال فيه تقديما وتأخيرا وان المعنى انا عذبناها عذابا شديدا فى الدنيا ونحاسبها حسابا شديدا فى الآخر على ان لفظ الماضى للتحقيق كأكثر ألفاظ القيامة فان فيه وفى نحوه تكلفا بينا على ما ارتكبه من يعد من اجلاء المفسرين ودل قوله فى الاثر " حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا " على ان المحاسبة عامة لما فى الدارين وان المراد بها فى بعض المواضع هو التضييق والتشديد مطلقا { فاتقوا الله يا أولى الالباب } اى اعتبروا بحال الامم الماضين من المنكرين المعاندين وما نزل بهم من العذاب والوبال فاتقوا الله اوامره ونواهيه ان خلصت عقولكم من شوب الوهم فان اللب هو العقل الخالص من شوآئب الوهم وذلك بخلوص القلب من شوآئب صفات النفس والرجوع الى الفطرة الاولى واذا خلص العقل من الوهم والقلب من النفس كان الايمان يقينا فلذلك وصفهم بقوله { الذين آمنوا } اى الايمان التحققى اليقينى العيانى الشهودى وفيه اشارة الى ان منشأ التقوى هو الخلوص المذكور ولا ينافى ذلك زيادة الخلوص بالتقوى فكم من شئ يكون سببا لاصل شئ آخر ويكون سببا فى زيادته وقوته على ذلك الآخر وبكمال التقوى يحصل الخروج من قشر الوجود المجازى والدخول فى لب الوجود الحقيقى والاتصاف بالايمان العيانى قال بعضهم الذين آمنوا حقا وصدقا ويجوز أن يكون صفة كاشفة لا مقيدة فانه لا يليق أن يعد غير المؤمنين من اولى الالباب اللهم الا أن يراد باللب العقل العارى عن الضعف بأى وجه كان من البلادة والبله والجنون وغيرها فتخصيص الامر بالتقوى بالمؤمنين من بينهم لانهم المنتفعون انتهى والظاهر ان قوله { الذين آمنوا } مبتدأ خبره قوله تعالى { قد انزل الله اليكم } والخطاب من قبيل الالتفات { ذكرا } هو النبى عليه السلام كما بينه بأن ابدل منه قوله { رسولا } وعبر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن او تبليغه والتذكير به وعبر عن ارساله بالانزال بطريق الترشيح اى للتجوز فيه عليه السلام بالذكر او لانه مسبب عن انزال الوحى اليه يعنى ان رسول الله شبه بالذكر الذى هو القرآن لشدة ملابسته به فأطلق عليه اسم المشبه به استعارة تصريحية وقرن به ما يلائم المستعار منه وهو الانزال ترشيحا لها او مجازا مرسلا من قبيل اطلاق اسم السبب على المسبب فان انزال الوحى اليه عليه السلام سبب لارساله وقال بعضهم ان التقدير قد انزل الله اليكم ذكرا يعنى القرءآن وارسل اليكم رسولا يعنى محمدا عليه السلام لكن الايجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول وقد دل عليه القرينة وهوقوله انزل نظيره قوله علفتها تبنا وماء باردا اى وسقيتها ماء باردا فيكون الوقف فى ذكرا تاما بخلافه اذا كان بدلا وقال القاشانى قد انزل الله اليكم ذكرا اى فرقانا مشتملا على ذكر الذات والصفات والاسماء والافعال والمعاد رسولا اى روح القدس الذى انزله به فأبدل منه بدل الاشتمال لان انزال الذكر هو انزاله بالاتصال بالروح النبوى والقاء المعانى فى القلب { يتلو } يقرأ ويعرض { عليكم } يا اولى الالباب او يا ايها المؤمنون { آيات الله } اى القرءان { مبينات } اى حال كون تلك الآيات مبينات ومظهرات لكم ما تحتاجون اليه من الاحكام اومبينات بالفتح بمعنى واضحات لاخفاء فى معانيها عند الاهالى اولا مرية فى اعجازها عند البلغاء المنصفين وانما يتلوها او انزله { ليخرج } الرسول ويخلص او الله تعالى قال بعضهم اللام متعلقة بأنزل لا بقوله يتلو لان يتلو مذكورعلى سبيل التبعية دون انزل { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الموصول عبارة عن المؤمنين بعد انزاله والا فاخراج الموصوفين بالايمان من الكفر لا يمكن اذ لا كفر فيهم حتى يخرجوا منه اى ليحصل لهم الرسول ما هم عليه الآن من الايمان والعمل الصالح باخراجهم عما كانوا عليه أو ليخرج الله من علم او قدر انه سيؤمن ولم يقل ليخرجكم اظهار لشرف الايمان والعمل الصالح وبيانا لسبب الاخراج وحثا على التحقق بهما { من الظلمات الى النور } اى من الضلالة الى الهدى ومن الباطل الى الحق ومن الجهل الى العلم ومن الكفر الى الايمان ومن الشهبات الى الدلالات والبراهين ومن الغفلة الى اليقظة ومن الانس بغير الله الى الانس بالله على طبقاتهم ودرجاتهم فى السعى والاجتهاد بعناية الله تعالى وفى التأويلات النجمية ليخرج الذين آمنوا بالايمان العلمى وعملوا الصالحات بمقتضى العلم الظاهر لا بمقتضى الحال من ظلمات التقييد بالاعمال والاحوال الى نور الاطلاق برؤية فاعلية الحق فى الاشياء انتهى.

السابقالتالي
2 3 4