قوله: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ }. ظاهر هذا أن يكون قوله: { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } بعد الموت، وبعد ما عاين أهوال الآخرة وأفزاعها؛ لأن الموت ليس هو شيء يأتي من مكان إلى مكان؛ إنما هو شيء يذهب بالحياة التي فيهم، إلا أن أهل التأويل قالوا: إن ذلك عند معاينتهم ملك الموت، وعند هجومه عليهم بأهواله؛ فعند ذلك يسألون الرجعة إلى الدنيا، والأول أشبه وأقرب. ثم قوله: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ }: ليس هو صلة قوله:{ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [المؤمنون: 97-98]، ولا جوابه؛ لأنه ليس من نوعه، ولا من جنس ذلك، ولكنه - والله أعلم - صلة قوله: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، وجواب قوله: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، ونحوه الذي تقدم ذكره، يقول: وإنهم على ذلك { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } ، فعند ذلك يرجع إلى الحق والتصديق، لكن ذلك لا ينفعه في ذلك الوقت { قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } ، ولم يقل: ربّ ارجعني، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: سأل على ما يسأل الملوك ويخاطبون: افعلوا كذا، على الجماعة، وإن كان إنما يخاطب واحدا؛ على ما خرج جواب الله وقوله: إنا فعلنا كذا، ونفعل كذا. والثاني: أن يكون قوله: { رَبِّ ٱرْجِعُونِ }: يسأل ربه أن يأمر الملائكة الذين يتولون قبض أرواحهم أن يرجعوه إلى ما ذكر، والله أعلم. وقوله: { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }. قال بعضهم: { فِيمَا تَرَكْتُ } ، أي: فيما كذبت. وقال بعضهم: { فِيمَا تَرَكْتُ }: في الدنيا من الأعمال الصّالحة فأعمل بها. وجائز أن يكون قوله: { فِيمَا تَرَكْتُ }: من الأموال فأؤدي منه حقك؛ لأن من الكفرة ما كان سبب كفرهم منع الزكاة وجحودها؛ كقوله:{ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [فصلت: 6-7] فيسأل ربه أن يرجع إلى المال الذي تركه؛ ليؤدّي الحق الذي كان فيه فمنعه، كقوله:{ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10]، وقوله: { فَأَصَّدَّقَ } ، أي: فأتصدق بالصدقة التي منعتها؛ لأن الخطاب في الصدقة بقوله:{ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم... } الآية [البقرة: 254]، وهذا أشبه، والله أعلم. وقوله: { كَلاَّ } ، هو ردّ لما سألوا من الرجعة. [و] قوله: { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا }. قال بعضهم: قوله: { إِنَّهَا كَلِمَةٌ }: هو قول الله:{ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً... } الآية [المنافقون: 11]، { قَآئِلُهَا }: يعني الكافر عند معاينة العذاب، وهو قوله: { ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }. ثم قوله: { كَلاَّ } على هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا حقيقة لسؤاله الذي يسأله من الرجعة ليعمل العمل الصالح، أي: أنه وإن ردّ ورجع لا يعمل؛ كقوله - تعالى -:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }