الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }

إذن: فالحق سبحانه لم يُقصِّر مع الخلق، فقد خلق لكم العقول، وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويُّ الذي خلق الكون كله، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولاً بما يطلبه سبحانه من عباده، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول. إذن: كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة، قالوا: إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون، وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " تبحث عما وراء المادة. فَمَنْ أعلمَ الفلاسفة - إذن - أن هناك شيئاً وراء المادة. وكأن العقل المجرد ساعةً يرى نُظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول: إن وراء الكون الواضح المُحَسِّ قوة خفية. ولم يذهب الفلاسفة إلى البحث فيما وراء المادة، إلا لأنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئاً مستوراً. والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه، فهو أمر لا نعرفه بالعقل. وقديماً ضربنا مثلاً في ذلك، وقلنا: هَبْ أننا جالسون في حجرة، ودقَّ جرس الباب، فعلم كل مَنْ في الحجرة أن طارقاً بالباب، ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة. وهذا ما قاله الفلاسفة حين أقرُّوا بوجود قوة وراء المادة، ولكنهم تجاوزوا مهمتهم، وأرادوا أن يُعرِّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة لا يمكن أن تُعْرَف بالعقل لأننا ما دُمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقاً يدق فنحن لا نقول من هو، ولا نترك المسألة للظن، بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو، وماذا يطلب؟ لأن عليه هو أن يخبر عن نفسه. اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته، وهذه مسائل لا يمكن أن نعرفها بالعقل. إذن: فخطأ الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل أن هناك قوة من وراء المادة، وأرادوا أن ينتقلوا من التعقُّل إلى التصور، والتصورات، لا تأتي بالعقل، بل بالإخبار. وهنا يقول الحق سبحانه: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ.. } [يونس: 108]. والحق - كما نعلم - هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى التربية بعد أن خلق من عدم وأمدَّ من عُدْم، ولا يكلفنا بتكاليف الإيمان إلا بعد البلوغ، وخلق الكون كله، وجعلنا خلفاء فيه. وهو - إذن - مأمون علينا، فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى، فلماذا لا نجعل المنهج من ضمن التربية؟ لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الأجناس؟ كان يجب - إذن - أن نأخذ من المربِّي - سبحانه وتعالى - المنهج الذي ندير به حركة الحياة فلا نفسدها.

السابقالتالي
2 3