الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }

افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالىويل للمطففين } المطففين 1 إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمان بن الحكم من شعراء «الحماسة»
لَحَا الله قَيْساً قَيسَ عَيلان إنها أضاعت ثُغور المسلمين وولَّتِ   
وقول أبي تمام في طالعةِ هجاء
النارُ والعارُ والمكروه والعطب   
ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد
مجشري فقد أنجز الإِقبال ما وعد   
والتَّبُّ الخسران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيه بمثل اللفظ الذي شَتَم به أبو لهب محمداً صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقاً. وإسناد التبّ إلى اليدين لِما روي من أن أبا لهب لما قال للنبي «تباً لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا» أخذ بيده حجراً ليرميه به. وروي عن طارق المحاربي قال «بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول أيها الناس قولوا لا إلٰه إلا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفَه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول «يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه». فقلت من هذا؟ فقالوا هذا محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه «بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث». وقول النابغة
قعود الذي أبياتهم يثمدونهم رمى الله في تلك الأكف الكوانع   
ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاماً حسناً لا فُضَّ فُوك، وقال أعرابي من بني أسد
دَعَوْتُ لِمَا نابنِي مِسْوَراً فلبَّى فلبَّيْ يَديْ مِسْورِ   
لأنه دعاه لِما نابه من العدوِّ للنَّصر، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن. وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو عتبة تكنية باسم ابنه، وأمّا كنيته بأبي لهب في الآية فقيل كان يكنّى بذلك في الجاهلية لحسنه وإشراقِ وجهه وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في «مسند أحمد»، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى، وذلك لا يُقره القرآن، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العَلَمِ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائراً إلى النار، وذلك كناية عن كونه جهنمياً، لأن اللهب ألسنةُ النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان. والأبُ يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم «أبوها وَكيَّالها» وكما كني إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان وكنَّى النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمان بن صَخْر الدَّوْسي أبا هريرة لأنه حمل هِرَّةً في كم قميصه، وكُني شهرُ رمضان أبَا البَركات، وكني الذئب أبا جَعدةٍ والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنمياً لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف، وهو أنه من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتزاني في مبحث العَلَمِيَّة من «شرح المفتاح» وأنشد قول الشاعر

السابقالتالي
2