الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ } يعني: آدم عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } قُرئ { مُسْتَقَرٌّ } بفتح القاف وكسرها، وأما (مُسْتَودَعٌ) فبفتح الدال لا غير. وهما على الأول، إما مصدران، أي: فلكم استقرار واستيداع؛ أو اسما مكان، أي: موضع استقرار واستيداع. والاستقرار إما في الأصلاب، أو فوق الأرض، لقوله تعالى:وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [البقرة: 36] أو في الأرحام، لقوله تعالى:وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ } [الحج: 5] أو الاستيداع في الأرحام، فجعل الصلب مستقرّ النطفة، والرحم مستودعها، لأنها تحصل في الصلب، لا من قبل شخص آخر، وفي الرحم من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، كأنّ الرجل أودعها ما كان عنده، أو في الأصلاب، أو تحت الأرض، أو فوقها، فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله:
وما المال والأهلون إلا ودائع   ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائعُ
ونقل الرازيّ عن الأصمّ أن المستقر من خُلِقَ من النفس الأولى، ودخل الدنيا واستقر فيها. والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وجعل أبو مسلم الأصفهانيّ (المستقر) كناية عن الذَّكرَ، و (المستودع) كناية عن الأنثى. قال: إنما عبر عن الذكر بـ (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى بـ (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة - والله أعلم -.

وعلى قراءة: (مستقِر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قارّ، ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوماً، والثاني مجهولاً، كون الاستقرار صادراً منّا دون الاستيداع.

قال الرازيّ: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام. ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول: الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بدّ له من سبب ومؤثّر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى:وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } [الروم: 22].

{ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } قال الزمخشري: فإن قلت، لِمَ قيل (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقاً له. انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة. ومن قال: إنه الفهم مطلقاً، وليس بأبلغ من العلم - قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.

قال الناصر في (الانتصاف): جواب الزمخشريّ صناعيّ، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة. قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيهاً على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسيناً للنظم، واتساقاً في البلاغة.

السابقالتالي
2