الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخرّ لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قولهوما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } النساء 92. والمتعمّد القاصد للقتل، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب. والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء. ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه. وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار، ولم يُعرف قاتله، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافراً، وأنشد في شأن أخيه
قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَه سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع   
وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فقتِل بسوق مكة. وقوله { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي. قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر
ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا   
ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة. وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً، كما تَرِد على غيرها من الكبائر، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به، أخذاً بهذه الآية، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس، فسألتُه عنها، فقال نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية.

السابقالتالي
2 3