الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

{ وَهَـٰذَا } يعني: القرآن، { كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ } أي: كثير المنافع والفوائد، لاشتماله على منافع الدارين، وعوم الأولين والآخرين، ما لا يتناهى من الفوائد.

قال الرازيّ: العلوم إما نظرية، وإما عملية. فالأولى أشرفها. وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه. ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب. وأما الثانية: فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق، وتزكية النفس. ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب. ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه، والمتمسك به، يحصل له عز الدنيا، وسعادة الآخرة. انتهى. قال الخفاجيّ: وقد شوهد ذلك في كل عصر.

{ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، أي: من التوراة أو من الكتب التي أنزلت قبله، في إثبات التوحيد، والأمر به، ونفي الشرك، والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.

{ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } يعني: مكة. سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً، وغيرها كالتبع لها، كما يتبع الفرع الأصل. وفي ذكرها بهذا الاسم، المنبئ عما ذكر، إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة. { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أطراف الأرض، شرقاً وغرباً. كما قال في الآية الأخرى:لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام: 19]، وقوله:قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158]، وقال:تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1]، وقال تعالى:وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران: 20].

وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن: " وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ".

{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر، حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب (والضمير يحتملهما) ويحافظ على الصلاة. والمراد بها إما الطاعة مجازاً، أو حقيقتها، وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان، وأعظمها خطرا.

قال الرازيّ: ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى:وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 143]. أي: صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة والسلام: " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام. انتهى.

أقول: الحديث المذكور رواه الطبراني في أوسط معاجمه عن أنس وصحح. وتمامه: " فقد كفر جهراً " - كما في الجامع الصغير -.

أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق، قال في هذه الآية: أي: يحافظون على مواقيتها.