الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قولهيعظكم لعلكم تذكرون } سورة النحل 90. فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء. لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه أن لا يعصوه في معروف. وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة. وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية. والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قالإن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } سورة الفتح 10، وقالمن المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } سورة الأحزاب 23. والمقصود تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله. و { إذا } لمجرّد الظرفية، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء. فالمعنى أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد. والقرينة على ذلك قولهولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } سورة النحل 91 والعهد الحلف. وتقدّم في قوله تعالى { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه }. وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان إبطال ما كانت لأجله. فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين. و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية. و { بعد } هنا بمعنى مع، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا   
أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير، وقوله تعالىبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } سورة الحجرات 11، وقوله الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. والتّوكيد التوثيق وتكرير الفتل، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض. وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها. والمعنى بعد ما فيها من التوكيد، وبيّنه قوله { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً }.

السابقالتالي
2