الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

ساعة تسمع كلمة: " إنما " فاعلم أنهم يسمونها في اللغة " أداة قصر " كقولنا: إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قَصَرْنا زيداً على الاجتهاد. لكن إن قلنا: إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد. وساعة تقصر إنساناً على وصف فذلك يسمونه: " قصر موصوف على صفة " ، وعندما نقول: إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيداً شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن قلت: إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء، وأن زيداً فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتباً وخطيباً وعالماً مع كونه شاعراً. إذن فساعة ترى " إنما " فاعرف أنها أداة من أدوات القصر. والحق سبحانه يقول هنا: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90]. أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معاً. ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجساً من عمل الشيطان؟ إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة سلامة نفسه فلا يُعتدى عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعباً عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون.

السابقالتالي
2 3 4 5 6