الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

فيـه ست مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } رُوي عن عثمان بن مَظْعُون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتُها على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجّب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفي حديثٍ ـ إن أبا طالب لما قيل له: إن ٱبن أخيك زعم أن الله أنزل عليه «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» الآية، قال: اتبعوا ٱبن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» إلى آخرها، فقال: يا ابن أخي أعد! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لَطّلاوة، وإن أصله لمُورِق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر! وذكر الغَزْنَوِيّ أن عثمان بن مظعون هو القارىء. قال عثمان: ما أسلمت ابتداءً إلاّ حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فٱستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعد! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة،... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كَتْبُ الرجل إلى إخوانه. الثانية: اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان فقال ابن عباس: العدل لا إلٰه إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عُيينة: العدل هاهنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. عليّ بن أبي طالب: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية: العدل هو كل مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حَدّ الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميلُ الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله: " أنْ تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثارُ حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديمُ رضاه على هواه، والاجتنابُ للزواجر والامتثال للأوامر.

السابقالتالي
2 3