الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } قرأ نافع وابن كثير وحمزة وَحْدَهم { أَمَنْ } بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على مَن الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و مَن مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله { وجعَلَ لله أندَاداً } إلى قولهمن أصحَابِ النَّارِ } الزمر 8. والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإِنكار تعقيبه بقوله { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لظهور أن { هل } فيه للاستفهام الإِنكاري وبقرينة صلة الموصول. تقديره أَمَن هو قانت أفضل أم من هو كافر؟ والاستفهام حينئذٍ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه { قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ }.وجعل الفراء الهمزة للنداء و { من هو قانت } النبي صلى الله عليه وسلم، ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف، يعني المؤمنين أن يقولوا { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، وعليه فإفراد قل مراعاة للفظ مَن المنادَى.وقرأ الجمهور { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتشديد ميم مَن على أنه لفظ مركب من كلمتين أم و مَن فأدغمت ميم أم في ميم مَن. وفي معناه وجهانأحدهما أن تكون أم معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها أم لاقتضائها معادلاً. ودل عليها تعقيبه بــــ { هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ } لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين. فالتقدير أهذا الجاعل لله أنداداً الكافر خير أمَّنْ هو قانت، والاستفهام حقيقي والمقصود لاَزمه، وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل.والوجه الثاني أن تكون أم منقطعة لمجرد الإِضراب الانتقالي. و أم تقتضي استفهاماً مقدراً بعدها. ومعنى الكلام دع تهديدهم بعذاب النار وانتقِل بهم إلى هذا السؤال الذي هو قانت، وقائم، ويحذر الله ويرجو رحمته. والمعنى أذلك الإِنسان الذي جعل لله أنداداً هو قانت الخ، والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقَى تلك الصفاتُ الأربعُ مع صفة جعله لله أنداداً.والقانت العابد. وقد تقدم عند قوله تعالىوقوموا للَّه قانتين } في سورة البقرة 238.والآناء جمع أَنىً مثل أمعاء ومَعىً، وأقفاء وقفىً، والأنى الساعة، ويقال أيضاً إنَي بكسر الهمزة، كما تقدم في قولهغير ناظرين إِناه } في سورة الأحزاب 53. وانتصب { ءَانَاءَ } على الظرف لــــ { قَانِتٌ } ، وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالىإنّ ناشئة الليل هي أشدُ وطئاً وأقوم قِيلا }

السابقالتالي
2 3 4 5