الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } المخاطبون إمّا أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، أي: اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم، والأمور التي جرت عليهم، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم. فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب. وهذا أَولى، لأن قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } ، خطاب مشافهة، فحملُه على الحاضرين أولى. وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً، أو من قبل المخاطبين من سلفهم. والله أعلم. { فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ } في القساوة { أَوْ أَشَدُّ } منها { قَسْوَةً } أي: هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها. و { أَوْ } للتخير أو للترديد، بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة، وتركُ ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ } أي: يتفتح بالسعة والكثرة { مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ } بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي: يتشقق { فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ } أي: العيون التي هي دون الأنهار { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي: يتردّى من رأس الجبل من خشية الله، انقياداً لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة، قاله القاشاني.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح. والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ. وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة، لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها، كما بسط في مطولات البيان.

وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه " الفصل " على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزاً، رداً مسهباً. وقال: من ادعى ذلك أكذبه العيان. ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام.

(قال): ولعل معترضاً يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } ، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ. فإذ لا شك في هذا، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون الضمير في قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى، وهذا أمر يشاهد بالعيان، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى، ويخشى العاصي.

السابقالتالي
2 3 4