الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ }

وحين رأى إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرّاً ونكرهم، أي: استنكر أنهم لم يأكلوا من طعام قدَّمه لهم، فهل علم إبراهيم أنهم ملائكة؟ لقد علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة من كلامهم. وقد بيَّن ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الحجر: 52-58]. إذن: فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلام:إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ.. } [هود: 81]. وهنا حين قالوا لإبراهيم عليه السلام: {.. لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70]. أي: أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم ملائكة لأن المَلك قد يتشكل في هيئة إنسان، مثلما تشكَّل جبريل عليه السلام أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك الجن لهم قدرة على التشكل، إلا أن هناك فارقاً بين تشكل الملك وتشكل الجن، فالجن إن تشكل تحكمه الصورة، فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه. ألم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عفريتاً من الجن تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }. فرددته خاسئاً ". إذن: إذا تشكل الجن حكمته الصورة، ويمكن أن نضربه مثلاً، أما الملاك إذا تشكل فالصورة لا تحكمه. وحُكْم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا، وهو أيضاً يخاف منا مثلما نخاف منه، ولذلك لا يظهر الجني متشكلاً في صورة إلا لحظة قصيرة ليختفي على الفور لأنه يخاف أن تكون قد علمت أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن تفتك به لذلك فالجن يخافون من البشر. وشاء الحق سبحانه ذلك الأمر حتى لا يفزع الجنُّ الناسَ. وهنا يقول الحق سبحانه: { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ.. } [هود: 70]. وكلمة { نَكِرَهُمْ } تقتضي أن ننظر في مادة " النون والكاف والراء " وكلمة " نكر " وكلمة " أنكر " كلتاهما مستعملة في القرآن. والشاعر يقول:
وَأنْكَرتْنِي ومَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ   مِنَ الحَوادِث إلاّ الشَّيبَ والصَّلَعا
والاستعمال اللغوي يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى منكرات، أي: ينكرها الإنسان بفطرته.

السابقالتالي
2