الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ }

قوله تعالى: { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا }: الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ: لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي: وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ، لم يَجِيئُوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه { مَنْ لَعَنَهُ الله } إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى:يَٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [المائدة: 19]، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ، وكأنه قيل: أنْتُمْ، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى:وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ } [المائدة: 60]، تقديره: وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا، لا بُدَّ من حذف مضاف.

قوله تعالى: { وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ } هذه جملةٌ حاليةٌ، وفي العامل فيها وجهان:

أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء -: أنه " قَالُوا " ، أي: قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ.

والثاني: أنه " آمَنَّا " ، وهذا واضحٌ، أي: قالوا آمنَّا في هذه الحالِ، و " قَدْ " في " وَقَدْ دَخَلُوا " " وَقَدْ خَرَجُوا " لتقريب الماضِي من الحال، وقال الزمخشريُّ: " ولمعنى آخرَ، وهو: أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ، وهو متعلِّقٌ بقوله " قَالُوا آمَنَّا " ، أي: قالوا ذلك وهذه حالهم " ، يعني بقوله: " وهُو متعلِّقٌ " ، أي: والحال، وقوةُ كلامه تُعْطِي: أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل، و " بالكُفْرِ " متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ " دَخَلُوا " ، فهي حال من حال، أي: دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر، أي: ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم: " خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ " ، وقراءةِ من قرأ:تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20]، أي: وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ: [الطويل]
2002- وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو   فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
أي: ومِرْوَدُهُ فيه، وكذلك " بِهِ " أيضاً حالٌ من فاعل " خَرَجُوا ". فالبَاءُ في قوله تعالى: { دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة، كما تَقُولُ: " دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ " أي: ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول. وقوله: " وَهُمْ " مبتدأ، و " قَدْ خَرَجُوا " خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم، إذا دخلُوا على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ: " رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ " ، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين، وقال ابن عطية: " وقوله: " وَهُمْ " تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ، ثم يؤمنوا، ويخرجَ قومٌ، وهم كَفَرَة، فكان ينطبِقُ على الجميع، وهم قد دخلوا بالكفر، وقد خَرَجوا به، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله: { وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } ، أي: هُمْ بأعيانهم " ، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ، فبسطه ابن عطيَّة، قال الواحديُّ: { وهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } أكَّد الكلام بالضَّمير، تعييناً إياهم بالكفر، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ، وقال بعضهم: معنى " هُم " التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنَى: أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر، وقال أبو البقاء: " ويجوز أن يكون التقديرُ: وقد كانوا خرجُوا به " ، ولا معنى لهذا التأويلِ، والواوُ في قوله تعالى: { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } تحتمل وجهين:

أحدهما: أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها.

السابقالتالي
2