الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قوله تعالى: { أََلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيبِ، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري مجرى المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية.

و " كم " يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى الاسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً فـ " كم " وما في حيِّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد.

و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا " أهْلَكْنا " ، و " مِنْ قَرْنِ " على هذا تمييز لها وأنْ تكون عِبارَةً عن المصدر فتنتصب انتصابه بـ " أهْلكْنَا " أي: إهلاكاً، و " من قرنٍ " على هذا صِفَةٌ لمفعول " أهَلكْنَا " أي: أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و " مِنْ " تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية.

وقال الحُوفي: " من " الثانية بَدَلٌ من " مِنْ " الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويجوز أن تكون " كم " عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف.

قال أبو حيان: تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها.

وجعل أبو البقاء على هذا الوجه " مِنْ قَرْن " هو المفعول به، و " منْ " مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت: " كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً " أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة " مِنْ " لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى.

قال شهابُ الدِّين: وجوابه لا يسلم.

و " قَرْن " الجماعة من النَّاسِ وجمعه " قرون ".

وقيل: القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال: ثمانون سنةً، [ويقال: ستُّون سَنَةً] ويُقال: أربعون سَنَةً، ويقال: ثلاثون سَنَةً، ويقال: مائة سنة؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني: " تَعِيْشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه.

السابقالتالي
2 3 4 5